في موضوعي السابق اتيت بجزء من رائعة معلمتي الشاعرة بلقيس الجنابي :( تعرت ذ ُكاءْ) ولكن البعض لم يستطع فهمها كلها , ربما لما ورد فيها من الفاظ ليست لأذهان بعضنا بمعروفة , وصوراً واستعارات ليست للجميع بسهلة و مألوفة , ولو انها من بستان اللغة العربية مقطوفة , وللمتعمق والمدقق فى معانيها ظاهرة و مكشوفة , فحاولت شرحها بالعام من الكلام , لتقريب تلك المعانى إلى الأفهام , منتظرا التعليق والإضافة من الزائرين الكرام , وتلك مقدمةٌ كتبتها على اثر السابقون العظام , ومن بدونهم لكانت الدنيا فى ظلام , ببركة النبي وآله عليهم أفضل الصلاة وأتم السلام.
قبل أن تأتى بلقيس بقصيدتها وصفت الجو النفسي الذى كانت فيه والطابع الحسى الذي تأثرت به حتى تكتب تلك الكلمات الروائع فقالت :
جزيرة ماوي، من جزر هوايي، شهدت كاتبة هذه الأبيات منظرا نادرا وباهرا فقد كان قرصُ الشمس ِ يميل نحو الغروب بينما انتشرت نـُتـَفٌ من السحب المتفرقة نثر بعضُها على شواطئ البحر الزرقاء والحقول الخضراء، رَذاذا ناعما، في مساء رقَ نسيمُه وامتزجت ألوانُ تلك الغيمات السمراء ِ والثلجية، بلون أشعة شمس ذهبية فلوَّنت القـُبة َ السماوية، بألوان لازوردية وبنفسجية، متنوعةٍ ورائعةٍ، تتغير بين لحظةٍ وأخرى وما كاد قرصُ الشمس ِ الذهبي يدنو نحو حافة الأفق ِ الغربي حتى ظهر في الأفق الشرقي، هلالٌ شاحبٌ في يومه الثاني أو الثالث، تتبعه نجمة ٌ متألقة وهكذا ولـِدَتْ هذه اللوحة ُ الشعرية ...
قبل ان نبدأ فى القصيدة نريد القول بأن القصيدة تدور حول وصف تلك اللوحة الفنية الربانية التى امامها , وتصوير ما فعلته الشمس فى الكون من حولها وقد اسمت الشمس " ذُكاء" كما فعل المتنبي من قبلها. قال المتنبي مادحاً أبا عليّ هرون بن عبد العزيز الأوراجى الكاتب , وكان من الصوفية , فستخدم له الإشارات فى مدحه كما أعتاد الصوفية فقال :
أمِنَ أزْدَيَارَكِ فيِ الدُّجَى الرُّقَبَاءُ ... إِذْ حَيثُ أنْتِ مِن الظّلامِ ضياءُ
قَلَقُ الْمليِحَةِ وَهيَ مِسكٌ هَتْكُهاَ ... ومَسِيرُهَا في اللَّيل وهَى ذُكاءُ
فمعنى البيت التانى : ان ملاحتك وحلاوتك مثل المسك إذا تحركت فاحت رائحتها وانتشر عبيرها , وهى كالشمس فإذا سرت ليلا رآها الناس.
قالت بلقيس :
تعرت ذ ُكاءْ وأحنتْ على لـُجةٍ من ضياءْ
***
---------
تعرَّتْ ذ ُكاءْ وفكـَّتْ ذوائِـبـَها في السماءْ
***
فظيعة الأبيات دى...
فتزداد الشمس غيوبا وإفتقارا لربها , فتذيب نورها وتنشره فى السماء , وما إن يرى السحاب ذلك المنظر الساحر فيشغف حبا ويهيم بها لا يدري إلى أين يذهب , وقد أمتلأ إحمراراً تأثراً بها واضفى لون حمرته على الماء هى الأخرى فتزداد الشمس عطفا عليه وتهديه ثوبا من العلو والكبرياء , وتزداد رقه لفيض حبه الذي قد أضعفه وكواه فتتكرم عليه وتقدم له وعدا بالوفاء له وبأنها ستحفظ حبه أبدا ولن تنساه ...
---------
تعرتْ ذ ُكاءْ وماجت على موجةِ الأرجوانْ
وغاصتْ ببحر ِ النـُضار العميقْ وأغفتْ على زورق ٍ من جُمان
فشع صِباها على كوكبٍ يُعانِقه الليلُ عـَبرَ الزمانْ
***
فتبتعد الشمس أكثر وتشتد حمرتها فتكون مثل زهرة الأرجوان الشديدة الحُمرة مع روعة وحسن منظرها , فتلامس ماء البحر بصفائه وعمقه وتنام عند قارب من اللؤلؤ فتزيده سحرا ولمعاناً , و قد قل ضياها ونورها على عن تلك اللوحة الفنية وبدأ الليل فى الظهور أكثر وأكثر كلما مر الوقت.
--------
تعرَّتْ ذ ُكاءْ وأرخت جدائلـَها بازدهاءْ
وغطتْ جوانبَها بالعقيقْ لأن عُـيونَ الهلال الصفيقْ
رَنـَتْ نحوها تحتَ جُـنح المساءْ
فألقتْ شعاعا ً على فرعهِ تداعـِـبـُه بلظى من بهاءْ
***
ويمر الوقت وتبدأ الشمس فى الإختفاء وقد تركت ضفائرها بتهاون فعندما نظر إليها القمر وقد بدأ فى الظهور مع مجئ الليل , تغطت هى بالعقيق الأحمر خجلا منه وهرباً من نظراته , ثم داعبته بشعاع منها قد القته عليه فى حسن ودلال. ---------
تعرَّتْ ذ ُكاءْ وراحتْ تصفـفُ شعرا ً ذهبْ
أطلت على ربْـعها غـيمة ٌ وذرتْ رَذاذا بلون اللهبْ
ْفصار الرذاذ ُ على شعرها نـُثارَ جواهرَ؛ يا للعجب ْ !
تسامتْ ذ ُكاء وماستْ على بحر طِـيـبْ
***
ومازالت تختفي عن الأنظرار وهى تصفف شعرورها الذهبية اللامعة , فمرت أمامها سحابة فأخفتها وقد ظهر خلفها ضوء الشمس خافتا مثلا الرذاذ ولكنه بلونٍ ذهبى غاية فى الجمال , فما أعجب هذا المنظر فكأنما هو جواهر منثورة على شعرها الجميل , ثم اقتربت اكثر واكثر من ماء البحر الصافى وتسامت فى رقة وحنان. ---------
فنادى عليها هلالُ المغيبْ:
" حنانيك، إني أموتُ جوىً فسِحْـرُك باتَ غِـذاءَ دميْ
،تعاليْ فحُـبـُـكِ مِـلءُ فميْ
"فحطتْ على صدرِها كوكبا ً وألقت له حفنة ً من ضياء ْ
وغاصتْ ببحر من الكبرياءْ
وصار ضياها سنا ً رائعا ً وآوت إلى خِدرها في إباء
*****
فناداها القمر بعدما غابت طالبا منها ان ترحمه وتسقيه من حنانها ,فإنه يُعذب ويشتد شوقا وحزنا من فراقها , بعدما قد سحرته بجمالها واصبح سحرها غذاءً له , وقد ملئه حبها , فغابت الشمس عنه بعد ان ألقت له لمعة من ضياءها والذى كان فى تلك الليلة شيئا عظيماً عالياً مرتفاً ذهبت بعده هى إلى بيتها فى عزة وإباء.
ألقت بلقيس الجنابي قصيدتها هذه فى مؤتمر الثقافة والتراث العربي فى مبنى الأمم المتحدة فى وجود الشاعر الكبير والأمير خالد الفيصل والذى لقبها بلقب (خنساء العرب) بعد سماعه تلك القصيدة.